نانا | فصل

غلاف رواية «نانا» لخليل ناصيف

 

نشر الكاتب والروائيّ الفلسطينيّ خليل ناصيف روايته «نانا» الصادرة عن «منشورات إيبيدي» (2021)، وتتناول الرواية ثيمة الغربة الّتي تعيشها شخصيّات الرواية الرئيسيّة. وكان قد صدر لناصيف من قبل «وليمة للنصل البارد» (2014)، و«الغابة الّتي قفزت من الصورة» (2017).

تنشر فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة فصلًا من الرواية بإذن من الكاتب.

 


 

مدينة الأقصر – مصر

أواخر يناير/ كانون الثاني 2018

 

وصل القطار محطّة الأقصر بعد رحلة دامت عشر ساعات، كنت مرهقة جدًّا وأدركت أنّني ارتكبت خطأً فادحًا لكوني لم أستأجر عربة نوم. تناولت حقيبة الظهر الضخمة ووضعت فيها رواية باولا هوكينز «في عتمة الماء». راودني حزن رهيب على النساء الغارقات، شعرت بأنّني أعرفهنّ معرفة شخصيّة. في الواقع أنا الآن أتعامل مع نانا، وهي فتاة غارقة أيضًا. نزلتُ من القطار ووقفت على الرصيف أتأمّل حركة الناس، هذه متعتي في محطّات القطار.

بعد دقائق كنت أقف تحت سماء الأقصر أنتظر حسن، دليل الرحلة. وصلتْ نانا إلى مدينة الأقصر قبلي بيوم واحد في رحلة جوّيّة، سوف نقضي يومين في الأقصر ثمّ نركب الباخرة النيليّة «منيرة» إلى أسوان، نتتبّع المعابد وآلهة الفراعنة. لا بدّ أنّ صديقتي تنام الآن في غرفة الفندق. تأخّر حسن، فتوجّهت إلى مقهى صغير، اشتريت زجاجة ماء وكعكة بالقرفة وجلست أنتظر، ثمّ رأيت جسدها الضئيل يقترب منّي برفقة عملاق أسمر. كانت نانا ترتدي بنطلونًا قماشيًّا وبلوزة بيضاء بأكمام طويلة، وصندلًا يكشف أصابعها المصبوغة بالطلاء الأسود.

بدت ضئيلة جدًّا في ثيابها الفضفاضة، لا يمكنني وصف حالتها سوى بأنّني وجدت نفسي أمام امرأة تتضاءل. ركضتْ نحوي وعانقتني، أمكنني لمس فقرات ظهرها من تحت الثياب، مدّ حسن يده مصافحًا، غرقت يدي في كفّه الضخمة، حمل حقيبتي وتوجّهنا إلى سيّارة «البيجو» المتهالكة.

أخذتُ حمّامًا ساخنًا، شعرت بأنّ كتلة كبيرة من الطين انزاحت عن جلدي، قاومت إلحاح نانا بأن نخرج لتناول الإفطار، كنت بحاجة إلى النوم لساعات. 

"متل ما بدّك"، قالت نانا، ثمّ نزعت قميصها، كانت عظامها بارزة وثدياها يبدوان مثل مصباحين صغيرين معلّقان بسقف من البوص، توهّج مفتاح الحياة فوق ثديها الأيسر وكأنّه وُشِمَ بالنار، التصقت بي، استدرت وعانقتها وداعبت شعرها حتّى نامت، وغرقتُ في أفكار ضبابيّة كئيبة ثمّ نمت بدوري.

عندما استيقظتُ كانت شمس الغروب تملأ الغرفة، ونانا تقف بجذعها العاري على النافذة فاتحة ذراعيها للشمس، تبدو وكأنّها شبح إيزيس. التفتت نحوي وكانت الدموع تغطّي وجهها، بدت جذّابة جدًّا، عانقتها وبكيت.

دفعتني بلطف.

-"صابرينا خلّينا نطلع نمشي".

غادرنا الفندق، مَشَينا في شوارع الأقصر نحو معبد «الكرنك»، كان مزدحمًا بمجموعة كبيرة من السيّاح الآسيويّين. لَفَتَ نظري فورًا هدوءهم المملّ، وإصغائهم باهتمام للشرح باللغة الإنجليزيّة الّذي يقدّمه دليل سياحيّ قصير يختفي أكثر من نصف وجهه تحت قبّعة من قبّعات الصيّادين البيضاء.

ما كنت بحاجة إلى الاستماع لأيّ نوع من الشروحات، لمستُ بيدي أعمدة المعبد وحاولت الإصغاء لأسرارها، من وقت لآخر كان يكسر رتابة الشرح رفيف سرب من الحمام، أو الضحكات المرحة لسائحتين من الصين ترتديان زيًّا مصريًّا تقليديًّا، كانتا في قمّة المرح.

"هل هما مثليّتان؟"، سألت نفسي. السؤال النابع من داخلي أخافني، هل أصبحت أفسّر تصرّفات الناس من منظور الحالة الّتي أعيشها؟ وما هي الحالة الّتي أعيشها أصلًا، هل أنا مثليّة؟ تبًّا لنانا وللمناطق الصعبة الّتي أخذتني إليها.

-"ولكنّك مستمتعة"، جاءني صوتي الداخليّ مرّة أخرى.

اخرسي، قلت لنفسي بصوت عالٍ.

-شو في؟ سألت نانا.

"ولا شي حبيبتي، أنا بشتم الفرعون تبع غرفة الولادة".

غرفة الولادة هي قاعة صغيرة في معبد «الكرنك»، تُصوِّرُ ولادة الفرعون «امنحوتب الثالث» من الإلهين «موت» و«آمون راع»، لأنّه كان قد استولى على الحكم من الفرعون السابق، وأراد أن يمنح حكمه شرعيّة إلهيّة.

قمنا بجولة في سوق الأقصر، وتناولنا العشاء في مطعم دجاج مقليّ، لم أكن لأخاطر بأخذ نانا إلى مطاعم لا أثق بنظافتها، كانت هشّة جدًّا ولا تحتمل أيّ انتكاسة صحّيّة جديدة. لعلّي كنت أنانيّة، ولكنّي لم أرغب بأن تموت وهي برفقتي.

عدنا إلى الفندق، أخذت حمّامًا آخرًا فتساقطت عنّي كتل جديدة من الطين، راودتني رغبة مضحكة بأن أَزِنَ نفسي، ربّما فقدت عدّة كيلوغرامات من الطين.

بكلّ الأحوال شعرت بأنّني أخفّ. كانت نانا تجلس على الشرفة تتناول مشروبًا من زجاجة صغيرة في حقيبتها. تناولتُ الزجاجة منها، كانت زجاجة ويسكي صغيرة ولكنّها مليئة بالنبيذ الأبيض. عرضتُ عليها أن تأخذ حمّامًا لتتخلّص من رائحة العرق، ولكنّها تجاهلتني وقفزت إلى السرير.

استلقيت بجانبها، كنت بحاجة ماسّة إلى النوم، ولكنّني سمحت لها بتقبيلي مع أنّني كنت قد وصلت لمرحلة الاشمئزاز من أيّ علاقة جنسيّة مع أيّ جسد، ولكنّ نانا في تلك الليلة لم تكن جسدًا، لم تكن امرأة، لم تكن رجلًا، كانت مجرّد شبح.

حاولتْ أن تتمادى أكثر فأدرت لها ظهري.

شعرتُ بأنّها تبكي، ولكنّني لم أستدر، قلت في نفسي بأنّني سوف أصلح الأمر كلّه في الصباح.

كنت منزعجة جدًّا؛ فخلال اليومين الماضيين لم نتبادل سوى بضع  كلمات، كانت رغباتها الجسديّة تتمدّد على حساب روحها الّتي تنكمش وكأنّها صحوة الموت.

نمت نومًا مليئًا بالكوابيس، تخيّلت وشم مفتاح الحياة على صدرها يلتهب، يتحوّل إلى جمرة تحرق الفراش.

عندما استيقظتُ في العاشرة صباحًا، لم أجد نانا، لم تكن في الحمّام ولا على الشرفة، بحثت عنها في لوبي الفندق، وفي المطعم. لقد اختفت.

عدت إلى الغرفة لأرتدي ثيابي وأخرج للبحث عن تلك المجنونة، عندما فتحت الخزانة وقع دفتر متوسّط الحجم على الأرض، فتحته وبمجرّد البدء في القراءة لم أتمكّن من تركه. عشرات رسائل الحبّ الموجّهة إليّ، نانا نسخت نفسها في ذلك الدفتر.

 


 

خليل ناصيف

 

 

 

كاتب، وشاعر، وروائيّ فلسطينيّ يعمل في إدارة قسم الكوارث في «الهلال الأحمر الفلسطينيّ». صَدَرَت له عدّة مؤلّفات من بينها «وليمة للنصل البارد» (2014)، و«الغابة الّتي قفزت من الصورة» (2017).